نشأة علم الدلالة: المسار التطوري التاريخي:
لقد استقطبت اللغة اهتمام المفكرين منذ أمد بعيد، لأن عليها مدار حياة مجتمعاتهم الفكرية والاجتماعية، وبها قوام فهم كتبهم المقدسة، كما كان شأن الهنود قديماً حيث كان كتابهم الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية والألسنية على الخصوص التي قامت حوله، ومن ثمة غدت اللسانيات الإطار العام الذي اتخذت فيه اللغة مادة للدراسة والبحث. وكان الجدل الطويل الذي دار حول نشأة اللغة قد أثار عدة قضايا تعد المحاور الرئيسية لعلم الألسنية الحديث فمن جملة الآراء التي أوردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم: "بوجود علاقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان."
إن المباحث الدلالية قد أولت اهتماماً كبيراً علاقة اللفظ بالمعنى، وارتبط هذا بفهم طبيعة المفردات والجمل من جهة وفهم طبيعة المعنى من جهة أخرى، فلقد درس الهنود مختلف الأصناف التي تشكل عالم الموجودات، وقسموا دلالات الكلمات بناء على ذلك إلى أربعة أقسام:
1-قسم يدل على مدلول عام أو شامل (مثل لفظ: رجل)
2-قسم يدل على كيفية (مثل كلمة: طويل)
3-قسم يدل على حدث (مثل الفعل: جاء)
4-قسم يدل على ذات (مثل الاسم: محمد)
إن دراسة المعنى في اللغة بدأ منذ أن حصل للإنسان وعي لغوي، فلقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود، كما كان لليونان أثرهم البين في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدلالة، فلقد حاور أفلاطون أستاذه سقراط حول موضوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، وكان أفلاطون يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدال ومدلوله، أما أرسطو فكان يقول باصطلاحية العلاقة، وذهب إلى أن قسم الكلام إلى كلام خارجي وكلام داخلي في النفس، فضلاً على تمييزه بين الصوت والمعنى معتبراً المعنى متطابقاً مع التصور الذي يحمله العقل عنه. وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد هامة في مجال دراسة اللغة كمدرسة الرواقيين.
ومدرسة الاسكندرية ثم كان لعلماء الرومان جهد معتبر في الدراسات اللغوية خاصة ما تعلق منها بالنحو، وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية التي بقيت صالحة إلى حدود القرن السابع عشر بما حوته من النحو اللاتيني، وبلغت العلوم اللغوية من النضج والثراء مبلغاً كبيراً في العصر الوسيط مع المدرسة السكولائية (Scolastique) والتي احتدم فيها الصراع حول طبيعة العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها، وانقسم المفكرون في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلاقة بين الألفاظ ودلالاتها وقائل بذاتية العلاقة.
[FONT="]وبقي الاهتمام بالمباحث الدلالية يزداد عبر مراحل التاريخ، ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر، ففي عصر النهضة، أين سادت "الكلاسيكية" بأنماطها في التفكير والتأليف امتازت الدراسات اللغوية في هذه المرحلة بالمنحى المنطقي العقلي، وأحسن من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة: أن اللغة ما هي إلا صورة للعقل، وأن النظام الذي يسود لغات البشر جميعاً قوامه العقل والمنطق.
وفي حدود القرن التاسع عشر الميلادي، تشعبت الدراسات اللغوية، فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين من اللغة، فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج، فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الأصوات إلى جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الأصوات المجردة، كما برزت الأتيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الاشتقاقات في اللغة، ثم علم الأبنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدلالي في بناء الجملة.
وفي الجانب الآخر من العالم، كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزاً واسعاً في إنتاجهم الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوماً لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم، سواء تعلق الأمر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث، أو علوم العربية، كالنحو والصرف والبلاغة، بل إنهم كانوا يعدون علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية، ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية] بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها. وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية، وبنى اللغويون أحكامهم على أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات، وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والإجماع والاستصلاح تماماً كما فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين".
ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الأحكام الفقهية ووضع القواعد الأصولية للفقه، اهتم العلماء بدلالة الألفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث. واحتاج ذلك منهم إلى وضع أسس نظرية، فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت الأبحاث المعاصرة."
فالأبحاث الدلالية في الفكر العربي التراثي، لا يمكن حصرها في حقل معين من الإنتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم لأنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير
والنقد الأدبي والبيان.
هذا التلاقح بين هذه العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدلالي العربي، الذي أرسى قواعد تعد الآن المنطلقات الأساسية لعلم الدلالة وعلم السيمياء على السواء، بل إنك لا تجد كبير فرق بين علماء الدلالة في العصر الحديث وبين علماء العرب القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دلالي هام، يمكن رصده في نتاج الفلاسفة واللغويين وعلماء الأصول والفقهاء والأدباء، "فالبحوث الدلالية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها، وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجاً أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها.
إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لأسلافنا الباحثين، وتلك الأبحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من الهنود واليونان واللاتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الأوروبية، فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي الحديث وأرست قواعد هامة في البحث الألسني والدلالي، استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير، وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي (ميشال بريال M.Breal[FONT="]) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلاله على البحث في الدلالة، واقترح دخوله اللغة العلمية، هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بريال: "إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد، نعم، لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات، وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنتظم تغير المعاني، وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلادها ووفاتها، وبما أن هذه الدراسة تستحق اسماً خاصاً بها، فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدلالة على علم المعاني.
إن العالم اللغوي (بريال) انطلق- دون ريب- في تحديد موضوع علم الدلالة ومصطلحه من جهود من سبقه من علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر: "إن دراسة المعنى بوصفه فرعاً مستقلاً عن علم اللغة، قد ظهرت أول ما ظهرت سنة 1839، لكن هذه الدراسة لم تعرف بهذا الاسم (السيمانتيك) إلا بعد فترة طويلة أي سنة 1883 عندما ابتكر العالم الفرنسي (م.بريال) المصطلح الحديث."
إلا أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدلالة يجمعون على أن فضل (بريال) يكمن في تخصيصه كتاباً استقل بدراسة المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدلالة، وأبدع منهجاً جديداً في دراسة المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدلالات دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق